ليس ضعفاً أو خجلاً أو هروباً وانسحاباً من واقع صاخب، أو عجزاً عن التعبير، وإنما هو على العكس من ذلك تماماً، فالصمت هو الجزء الأصعب من علم الكلام، وهو التعبير الأفضل على الإطلاق في مواجهة العديد من الأسئلة، فالصمت الوقور إجابة رائعة لا يتقنها إلا العقلاء.
عن الصمت قال رسول الله صلوات الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت». نعم، فالصمت يعصمنا من زلات اللسان، والخوض في سفسطة تشبه الصراخ، الذي لا يصل معه الإنسان إلى قناعة أو بلاغة أو حتى حسن استماع.الصمت لغة خاصة جداً، وظاهرة إيجابية معقدة، وهو ليس مجرد غياب الكلام، وقد أدرك المفكرون والشعراء والأدباء والتشكيليون مدى قوة هذه اللغة الصامتة على امتداد التاريخ المسجل، وقد عرفها المتصوفة أيضاً منذ وقت طويل وأقر بها الكثيرون من الفلاسفة.ففي العام 1913 كتب ماكس شيلر، على سبيل المثال، يقول: «يمكن للأشخاص التزام الصمت والاحتفاظ بأفكارهم لأنفسهم وذلك أمر مختلف تماماً من عدم قول شيء، فالصمت موقف ايجابي له دلالات أقوى من دلالة الكلام والتعبير».
الصمت أنواع كثيرة وله دلالات مختلفة، فالصمت في الفكر الإسلامي أداة لتهذيب النفس الإنسانية، وفي الوقت نفسه لا يكون سكوتاً عن الحق، «فالساكت عن الحق شيطان أخرس».والصمت على هذا النحو يساعد على الورع ويعلم التقوى والتأمل ومعرفة منظومة الكون وصلتها بالإنسان بطريقة أفضل، ويساعد على ذكر الله والتسبيح والخشوع، والصمت كذلك يساعد على حفظ الجوارح من المعصية، ويعمل على مجاهدة النفس، وأفضل أنواع فلسفة الصمت هي الصوم، الذي يلخص الصمت غاية في الروعة، فالصوم عن الطعام يعد صمتاً وعن النميمة صمتاً وعن حفظ النفس صمتاً، ومن هنا فالصمت ليس فقط عزوفاً عن الكلام كمظهر خارجي، وإنما هو يضرب في العمق الإنساني
ولم تهمل الفلسفات القديمة الصمت، ولكنها هي جزء مهم منه، ففي الفلسفة الصينية القديمة لا مجال للفصل بين الخطاب والفكر والعمل، لأن تجسيد الصمت هو العمل، والصمت أيضاً في هذه الفلسفة القديمة هو الطريق إلى التأمل.وماذا عن الصمت في الطب النفسي؟تشير الموسوعة الدولية للطب النفسي إلى أن الصمت له معان واستخدامات متعددة بالنسبة للمريض والطبيب أيضاً، فالصمت والإصغاء شيئان أساسيان في مهنة الطب النفسي، حيث يستمع الطبيب بهدوء للمريض ويستوعب تماماً حالته، وبهذا المفهوم فهو يعكس نوعاً من التفهم يشعر المريض معه باهتمام الطبيب به ـ ولكن لابد ان يتحدث الطبيب في الوقت المناسب.ودلالات الصمت كانعكاس نفسي لدى المريض كثيرة، فهو ـ أي الصمت ـ من الآثار الجانبية لحالات الاكتئاب والانطواء والخجل المرضي، أيضاً هو دلالة من دلالات مرض الرهاب المعروف بالخوف المرضي أو anxiety والصمت في هذا المرض دلالة على تأخر حالة المريض وعدم جدوى العلاج.
فبعد ان كان مريض الرهاب يعبر بالكلام عن مخاوفه غير المعروف سببها وعن ثورته لطريقة تعامل المحيطين به بالازدراء وعدم المبالاة به، إلا أنه يصاب في النهاية بما يعرف بالصمت المرضي المطول، الذي قد ينتهي به إلى الموت، كنتيجة لعدم رغبته في الحياة، التي يترتب عليها رفضه للطعام، ويفضل النوم المستمر حتى يموت خلال نوبات النوم هذه.
أما إذا صمت الأطفال فهي ظاهرة مرضية تعرف في علم النفس الحديث باسم «التوحد»، وهو أحد أخطر الأمراض النفسية الطفولية، حيث يصمت الطفل تماماً، والصمت هنا يعد سلبياً، ويكون الطفل خلاله متعاملاً مع ذاته فقط، ولا يلفت نظره كل من حوله حتى أمه، ولا يتفاعل مع أي شيء حوله، ـ ويظهر ذلك بوضوح في تصرفاته وعدم تحديثه فيمن حوله.
ويعتز فقط بقطعة واحدة من ملابسه ونوع واحد من الطعام، ويعتبر سريره هو الملجأ والصديق الوحيد له وكذلك لعبة واحدة من ألعابه. ويطول العلاج الإكلينيكي وبالعقاقير، ولكن نسبة الشفاء غير مضمونة دائماً حسب درجة الإصابة، فالصمت هنا يخرج عن الإطار الإيجابي وترجح السلبيات فيه، لأن الصمت ليس لغة صحية لدى الأطفال. وهناك ما يعرف بالصمت «البائس»، ويعرفه الطب النفسي الحديث باسم «الطلاق الوجداني» بين الأزوج، وهو نهاية سلبية لكل مشكلات ومنغصات الحياة الزوجية غير السوية، التي تكثر فيها المشكلات والخلافات، وهو ظاهرة تصيب الزوجات بنسبة 76% أكثر من الأزواج وهذا العرض لديهن بمثابة الصدمة الكبرى في حياتهن، فيلتزمن الصمت، الذي ينتهي بالوفاة لرفضهن للحياة الزوجية بصفة خاصة والحياة بصفة عامة، وينعكس ذلك على أسلوب حياتهن، فتهرب الزوجة إلى حجرة خاصة بها، تجهزها بكل احتياجاتها، ولا تكلف نفسها مجرد النظر للزوج أو النطق باسمه، وهذه هي المرحلة المتأخرة سلباً في علاقتها بالآخر ـ الزوج ـ وتكثر نسبة وفيات الزوجات في هذه الآونة، حيث ترتفع إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بأسباب الوفيات بالأمراض المستعصية كالسرطان وأمراض القلب والرئة والحوادث.
وقد يكون الصمت إرادياً أو لا إرادياً، فالأفكار والمشاعر الصامتة لها أكثر من طريق للتسرب والانتشار، فقد أشار فرويد في العام 1905 بعدم إمكانية أي إنسان كتمان السر حتى لو كان أخرس ـ فيمكن التعبير بلغة الجسد، خاصة أطراف الأصابع، ويضيف ـ ضمن أبحاثه في هذا المجال ـ بأن المريض النفسي يعبر عن آلامه النفسية وقلة حيلته بالصمت، والصمت أيضاً هوية ـ هيستيرية ـ للموت، ويكون في الأحلام أيضاً رمزاً للموت، ودور الطبيب النفسي في هذه الحالات ـ كما يعتقد فرويد ليس في إخراج المريض من صمته، وإنما أن يعطيه أسباباً لهذا الصمت.
ولعلم الاجتماع باع طويل في دراسة ظاهرة الصمت، فهو العلم الذي يدرس السكوت في اللغة، يحاول ان يدرس الوظائف الاجتماعية للخصائص الصامتة التي تفتن برقتها العلاقات الإنسانية، وهذا نجده في الحوارات بين مجموعة من الناس، فمنهم من ينصت ليستوعب أكثر ومنهم من ينصت ليترقب الحاضرين حواره..
والصمت أيضاً لغة إيجابية في فن الباليه تصاحبه موسيقى تعبيرية راقية وديكور يتداخل مع الإيقاع والموسيقى والإضاءة في فهم الرمز، ويرتقي بالمشاهد ويحفز لديه التفكير العميق لفهم المضمون الذي يعكس فن الباليه الراقي.
وللفن السابع مع الصمت حكاية طويلة أيضاً، عكس من خلالها السينما المصرية والعالمية أروع الأعمال، منها فيلم «الخرساء» عام 1961 بطولة سميرة أحمد وعماد حمدي وحسن يوسف وفاخر فاخر، وهو من انتاج عبدالحليم حافظ وعبدالوهاب ووحيد فريد، ومن إخراج حسن الإمام. وقد تعلمت سميرة أحمد لغة الإشارة بعد التحاقها بمعهد الصم بالقاهرة لتتقن دورها في هذا الفيلم، الذي يعتبر من المحطات الفنية المهمة في حياتها، وأشاد به النقاد وقتذاك وحتى الآن.
وهناك فيلم «الصرخة» بطولة نور الشريف ومعالي زايد ومن إخراج محمد النجار وهو من الأفلام المصرية التي تناولت قضايا الصم والبكم في المجتمع المصري. ويرجع تاريخ عرضه للعام 1991 وقد حصد الفيلم العديد من الجوائز في مهرجان الإسكندرية وغيره.
والسينما العالمية تعرضت كذلك لظاهرة الصمت، التي رصدتها في واحد من أشهر الأفلام الأميركية «صمت الحملان» من بطولة انطوني هوبكنز وجودي فوستر، وحاز هذا الفيلم على الأوسكار في العام 1991 عن أحسن ممثل. <
وللصمت مكانة أيضاً في فن المعمار، وهو سمة من سمات الشعور بالسلام والهدوء، وقد جسد ذلك المعماري المصري جمال بكري الذي امتاز بتصاميمه التي تحمل طابعاً يعكس الراحة النفسية واستشعار السلام في العديد من تصميماته للمباني والمنازل في مصر، وكان يمتاز بتصميم المساحات الرحبة الممتدة في فراغ يريح النفس والعين معاً، يمكن للساكنين بها من استحضار لحظات التأمل والسلام التي يحتاجها سكان المدن الكبرى كالقاهرة.
وكان جمال بكري يعمد إلى التقليل من التعقيدات المعمارية التي تصيب بالصدمة أحياناً، ويمتاز بكري ـ جنباً إلى جنب ـ في تصميماته بالعرافة وأيضاً بلمسة حداثة تساير تطور العصر.
ومعظم تصاميمه الهندسية التي تتصف بجماليات السكون الذي يطل من المعمار الهاديء تتواجد على ضفاف نهر النيل، الذي يحاور المعمار بكل الهدوء والسلام والسكينة، والمعماري بكري الذي ولد في العام 1931، له إنجازات بالفلسفة المعمارية ذاتها في برلين من فنادق ومبان منها مبنى السفارة المصرية، والعديد من المنازل في الريف الألماني.
ولأن الصمت غالباً ما يفرض حضوره المنطقي والقوي بعد الصخب، فللطبيعة منطقها في دائرة الصمت أيضاً حوار فطري تعكسه البحار والأنهار والرياح والأمطار في منظومة الصخب والصمت، فهياج البحار والمحيطات يعقبه هدوء وسلام وصمت، فيهدأ الكون والكائنات معا وهناك مثل في هذا الصدد «هدوء بعد العاصفة» والهدوء هو لغة من لفات الصمت.
وفي هجرة الطيور، وطيرانها بصخب قاطعة العالم بأجنحتها، لابد لها من في النهاية من الصمت والكف عن الطيران في رحلات الهجرة، فتحط برحالها على الشواطيء والجبال والوديان، تلتقط الأنفاس في صمت فطري غير متعمد، وربما من هنا يكون الصمت هو مساحة الهدوء الإنساني ولغة من لغات الطبيعة في مختلف مجالاتها ومظاهرها.والكلام عن الصمت على لسان الحكماء والمشاهير كثير، يفعم بالحكمة والدلالات الناضجة، فماذا يقولون عنه؟!
هناك مقولة مشهورة عن عمرو بن العاص مفادها «الكلام كالدواء.. إن أقللت منه نفع، وإن أكثرت منه قتل».
وقال الحكيم لقمان لابنه: «يا بني، اذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك». وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «اذا تم العقل نقص الكلام». وقال: «بكثرة الصمت تكون الهيبة». ويقول وليم هنريت: «الصمت فن عظيم من فنون الكلام»، ويقول كريستوفر مورلي «لن تكون متحدثاً جيداً حتى تتعلم كيف تحسن الإصغاء». وإذا كان إجماع المفكرين والفلاسفة على أن الصمت هو العملة الذهبية مقابل الكلام، فهناك حقيقة الحقائق جمعاء وهي أن الموت هو الانتقال من الحركة إلى السكون، وهو الصمت الأبدي لكل الكائنات