(حلقة 1) جريدة عبد المحسن... أسرار إنسانية لا تعكرها الذاتية

السلام عليكم

قال أحد الشعراء الإنجليز القدامى مدافعا عن إحدى ملاحمه:

"إنه ليحزنني ويسؤوني أن أرى ذلك الفن الجليل (الشعر) يستنزف ثرواته الطائلة من براعة الذهن ورشيق العبارة في كتابة المدائح الآثمة الحقيرة للعظماء أو في التشبب ...... (بالنساء) أو في إثارة الضحكات الماجنة بسلاح الهجاء... إلخ"

ما أليق هذه المقولة على أشعارنا وأغانينا وأحوالنا التي باتت من السطحية والأنانية فيها بمكان بحيث لا تتسع عند الكثيرين إلا لمصالح وشؤون الذات ولا ترتمي إلا على بلاطها القدسي الوثير...

تحدثت في موضوع "الرسم بالكلمات... بين التطلعات والإرجاءات" عن أمور كثيرة كنا نطمح إليها في هذا الألبوم المرتقب حينها ومنها ما نحن بصدده الآن حيث طلبنا من القيصر أعمالا غير عاطفية ربما إنسانية أو اجتماعية أو حتى تأملية بحيث تلامس ما نصبو إليه من شمولية المنتج الساهري لمنظومة الحياة بما فيها من أفكار وأحوال..

لم أكن أعرف حين اطلعت على عنوان أغنيتنا "الجريدة" دون قراء كلماتها حتى صدورها مغناة أن خبر تحقق مرادنا مخبوء بين ثنايا صفحاتها، ولكنها تطابقت مع التطلع على أجمل ما يكون عليه التحقق الذي يأخذنا على حين غرة من الانتظار على قارعة الأمل...

لا أخفي توجسي للوهلة الأولى من هيبة معالجة عبد المحسن الأمير لموضوع إنساني بدت تتكشف ملامحه من إرهاصاته "فيها حد يجرح وريده وينزف أخبار جديدة".. ولكني سرعان ما تأقلمت مع السياق الذي بدا تناوله متصاعد الجمال وتجرده مدهش الرقة والعذوبة.. التجرد من الذات لأجل الآخر بلا مآرب.. ربما كان ذلك أجمل ما في الإنسان بالمطلق!

بعيدا عن الترتيب الزمني الذي تمتد فيه لدقائق أو أجزاء منها الموسيقى تمهد بهالة مبهمة لالتحام أقرب بين الرمز والمدلول يمثله العنصر القولي.. دعونا نبدأ بالتحليل الشعري ونرجأ الألحان والموسيقى لمكانها وحجمها الأليق في مقال آخر مجمع عن الألبوم بحكم معرفتنا المحدودة عنها..

بدا عبد المحسن قصيدته السهلة الممتنعة بعنونة محور تناوله للصعيد الإنساني في هذا الزمن "الجريدة" مكررا إياها ثلاث مرات تشعرك حينا بأنها أمر وحديث معتاد مملل بات يضجر منه وحينا بأنها شكوى يبثها ويردد أصداءها قبل إيضاح وقائعها..

ثم شرع في بناء مقاربته الخاصة لهذا الرمز الشارح لحالة زمن قائلا بأنه يعرف أسرارها لا يعني بالطبع أنه مكشوف عنه الحجاب فيعلم الخبر سلفا أو حتى أنه يعرف نوعية ما سيطالع من أخبار باهتة متراوحة بين الكذب والظلم والبؤس والموت والنميمة والجشع والصراع ولكنه يعرف السر والعلة الأبعد وهي أن وراء هذه الطائفة الدسمة من أطباق ترضي شهيتنا في جلد الذات أو جلد الآخر يكمن ضحايا.. ضحايا ينزفون سعادتهم وصفوهم وربما كل حياتهم فيما وراء كواليس هذا المسرح الهزلي.. مثّلهم بالفاعل لا المفعول إمعانا في تصوير معاناتهم لنزف الخبر بجرح الذات فمنظومة هذا الزمن تسخّر حتى ضحاياها في مواقعهم اللائقة ينزفون بالأمر ودون حول ولا قوة، وتأكيدا على أن العالم جسد واحد وشريان واحد وإنما هو حين ينزف المصاعب والآلام والجوع والفقر والمرض والخوف ضحية لنفسه لا لقوى ما ورائية مبهمة أو معلومة.. باختصار: عالم يشوه ملامح الخير ليرضي شهية الشر سواء في التسبب في معاناة الغير أو التلذذ بمصافحة ظلالها في الصباح مع فنجان من القهوة حيث اختتم مطلعه الجميل الذي لا يزال يشي بالمعاني رغم بساطته وصغره بأن كل هذه الفصول لا تستحوذ من اهتمامنا ووقتنا وانتباهنا إلا كما تستحوذ قهوة الصباح.. بضع دقائق نجثو فيها في عجالة على صفحات الجرائد معاينين بمختلف مشاعرنا وتصوراتنا ثم ننصرف إلى ما هو أهو أهم: الحياة التي نراها كدرا واقعا للغير ونتوهمها صفوا قادما للذات!

تحول الشاعر بعد ذلك إلى تفصيل بسيط لوقائع مشهد الجريدة المعتاد واصفا إياه بأنه انعكاس وتجسيد لمشهد الحياة البائس.. فالجريدة ما هي إلا حياة مسطورة والحياة ما هي إلا وقود للخبر.. فكان حتما إذا أن تكون الجريدة مسرحا للهم والضيق والأحزان والتعب وملاحقة السعادة بلهث الذي فاته قطارها بحكم الحال والاستقبال... دموع يتشح بها محيا العالم.. دموع طفل فقد الطعام أو امرأة فقدت الأمن أو رجل فقد قوت يومه أو أمة فقدت شراعا لحلمها.. دموع إنسان عاين الكذب أو الخيانة على غير انتظار من اقرب المأمونين... دموع امرأة تركها زوجها وأطفالها في بحر المجهول بعد أن استشرفت أنانيته سعادته في شواطئ أخرى أو ربما أودعته هي ذاكرة النسيان بطعنات من السكين أو ما دونه انتقاما أو انقلابا.. دموع أب يعاين الجحود والضجر في عين أبنائه ليل نهار أو أم مسجاة على هامش الزمان في دار للمسنين بعد أنا ضاقت بها بيوت ابنائها بما رحبت.. وعرق من يكد في حرب العيش.. حرب تطلعات الذات للأكثر غير المحدود والوفاء بفروض المودة والرعاية والحب لأقرب الناس نقدا.. عرق الممتهنين والمهمشين الذين يدورون كعجلات توصل أسيادهم إلى بر السلامة والسعادة ولا ضير فالناس فئات.. ولكن ترى هل يصنف العدم الإنسان في فئة؟!.. هموم وهموم ما عادت تتصالح أو تتكيف مع واحة النوم أو السبات إلا بعد مشاورات ومهادنات وكذبات كثيرة.. هموم سرقت من قلوب أصحابها المزروعة فيها وملامحهم المنقوشة عليها لتحترق أخبارا على صفحات الجرائد.. لا حريقا يفضى إلى زوال بل حريقا يمثل اللافائدة وعبث الغير بها مثلما تحترق السجائر كل صباح لينفث بعضهم ما أخذه منها من سموم "مفيدة" للغير في أحاديثه المسلية.. صفحات من البشر تحترق على صفحات من الورق وتنسى.. فالجديد قادم كل يوم ولا يفسح مجالا للتأمل والوقوف مع النفس وعند ملامح الآخر والتأسي مدخر لحين انقطاع تيار الهموم والمحن لنقلب صفحاتنا القديمة إن لم يكن للتسلية أيضاحتى في ذلك الوقت! ثم يقول الشاعر في سخرية مبتعدا عن الإغراق في سرد محتويات الجريدة ملتفتا بكلمة "المهم" بأنها طائفة من الأخبار "السعيدة" واختر ما شئت لتضعه تحتها.. أخبار حزينة لا سعيدة بالطبع كما يشرح بعضها المذكور باقيها المغفَل.. ولكن هنا السخرية المضمنة والحقيقة المجردة واضحان بالتساوي لا يحتاجان لتأمل، بل إن هذه السخرية يضاف من خلالها تعبير عن الملل من تكرار الأنواع المعلومة بالضرورة بحكم الاعتياد والتحسر الممزوج بالدهشة على أن كل ما بتنا نراه صار بالتأكيد "غير سعيد"!

يختتم الشاعر قصيدته موضحا بأن السبيل الوحيد لأن نعاين الخير والجمال في جرائد الصباح هو أن تمحى كل هذه الأخبار منها.. ونطبع صفحة بيضاء.. نطبعها بيضاء فكيف؟ هي صفحة خالية نعم لكنها ليست منحة أو هبة بل مجاهدة لكل حرف عكر يريد أن يتسلل إلى بياضها وكل المآسي التي ترقد بين ثناياها نابضة بالألم والدموع.. دعونا نحجب الكلام إن كان كله شرا فهذا هو السبيل الوحيد لكي نجد ما نقرأ بحق صباحا.. ربما كان السبيل البراجماتي المتاح هو أن ننتقي الأخبار السعيدة أو السبيل اليوتوبي الواجب أن نعالج مسببات الكدر الدافق حبرا على صفحات الجريدة ولكن سواء بدا هذا من المحال واقعيا وعمليا أو من الممكن ولو جزئيا.. فليكن ما هو كائن ولكن احجبوا عنا تفاصيل لا ترسم بنا إلا الكآبة واليأس ولا نبذل لها إلا العبث والتسري.. حروف وصور وأخبار باتت تقتحم علينا صفونا وتؤرق عقولنا صحوا ونوما فدعوها عنا نعش وهْمَ الجمال ولو ببرشامة البياض ناصع الغياب!

محمد زهرة

اصفق لك يا محمد من هنا ..لارض الكنانة

موضوع يفتح الشهية للرد والمناقشة

وتبا للوقت والظروف التي لم تعد تسمح سوى بالتصفح الصامت والردود البسيطة

لكن حتما سانتصر عليهم وساعود ان شاء الله قريبا

لهذه الملحمة الساهرية الرائعة

لان اختيار القيصر لهذه القصيدة بالذات ادهشني

وقلب كل موازين الذوق الساهري

الف شكر ايها المبدع

لي عودة باذن الله

محمد (حلقة 1) جريدة عبد المحسن... أسرار إنسانية لا تعكرها الذاتية 951589

(حلقة 1) جريدة عبد المحسن... أسرار إنسانية لا تعكرها الذاتية 951589

مرحبا

شكراً لك محمد للموضوع و شكراً للغالية أم دلال لحضورها بالموضوع.

تم تكبير الخط حتى قراءة الموضوع يكون أسهل.

مرحبا من جديد

قرأت التحليل يا محمد و اراه تحليل منطقي و رائع.. أنا ما كنت منتبه ببعض النقاط المهمة اللي ذكرتهن و ان شاءالله باقي الاحباب يشوفون هذا الموضوع و يستمتعون به.
جميل جداً ان القيصر قدم اغنية غير عاطفية اللي تتكلم عن حقائق مهمة من حياتنا.
تم تسجيل تقييم ايجابي

شكرا محمد زهرة

صدقا ..هذا الذي كنت اتمناه من اي شخص ليفسر معنى اغنية الجريدة
فقد قرات بيوم ولا اتذكر باي موضوع ...ان اغنية الجريدة كانت زيادة وليس لها اي اهمية بلالبوم
وانها قد عملت عكسية فيه لعدم استغصاغتها لا كلمات ..ولاحتى الالحان فهي مبالغ بها ,كما قيل.

يا ريت من كتب تلك الملاحظة ان يقراء تحليلك الرائع والمكتمل عن هذه الاغنية التي لم تعجبه
وعلقت بحلقه ...ليعرف قيمة ما يسمع .

وان هذه الابيات القليلة ...تحوي امور العالم باسره واخباره

تقديري

أغنية الجريده أكثر من رائعه بس استغربت انو كاظم يغنيها وبنفس الوقت فررحت أنا اعتبر هاالاغنيه من فئة الاغاني الملتزمه مثل نوعية أغاني حواط ومارسيل خليفه

بيري الساهر كتب:: أغنية الجريده أكثر من رائعه بس استغربت انو كاظم يغنيها وبنفس الوقت فررحت أنا اعتبر هاالاغنيه من فئة الاغاني الملتزمه مثل نوعية أغاني حواط ومارسيل خليفه

مرحبا بيري

شكراً جزيلاً لك لردك الجميل.

» بدر شاكر السياب سيرته الذاتية و الادبية
» مشاركة القيصر في حفل تكريم الأمير بدر بن عبد المحسن "أغنية آه يا صاحب"
» مشاركة القيصر في حفل تكريم الأمير بدر بن عبد المحسن "آه يا صاحب" بصيغة mp3
» القيصر ود٠فتح الله احمد في كواليس احتفالية الامير بدر بن عبد المحسن
» اعلان برنامج الموعد الثاني لتكريم الشاعر بدر بن عبد المحسن بمشاركة القيصر